القضاء في دبي قصة جميلة مضمخة بعبق التاريخ العربي تذكر بقصص القضاة الأوائل كالقاضي عياض بن موسى بن عياض والقاضي عبد العزيز الجرجاني والقاضي عبد الرحمن بن قدامة المقدسي الذين تسري إليك كلما ذكرتهم نسائم تحمل عبق التاريخ حيث النزاهة والتقوى والورع والعلم الناضح من ثنايا كتاب قديم أبلى الدهر أوراقه وما استطاع أن يبلي ما فيه من علم وفقه وآيات وحكمة.
إنك لن تستطيع أن تعرف تاريخ القضاء إلا وأنت سارح الخاطر والفكر يتراءى لك في الأفق البعيد صورة شيخ جليل مهيب في حضرته رجل علم علي وجهه علامات الورع والتقوى وشموخ عالم وتواضع تقي يعهد الأول إلى الثاني في تلك الصورة بمهمة القضاء في دبي وهي حاضرة البحر التي لك أن تتخيلها في بداية تكوينها السياسي سنة 1833م على يد مؤسسها الشيخ مكتوم بن بطي بن سهيل الشيخ المؤسس للإمارة الهادئة قليلة الناس بيوتها الطين لا تحتمل أن يصدر عنها من الخلافات ما يستدعي وجود محاكم ذات بناء شاهق وقضاة كثيرون بل إن أهلها البسطاء في ذلك الوقت مشاكلهم قليلة بسيطة كبساطتهم جدير أن يقضي فيها شيخ علم جليل يقدره الناس أكثر مما يهابون سلطته تلك هي صورة القاضي في تلك البدايات الموغلة في التاريخ قبل ما يزيد على المائة عام.
ولك أن تمر بك صور أولئك القضاة الأوائل الأخيار الذين تعاقبوا على القضاء في دبي منذ بداياتها أولى تلك الصورة هي صورة الشيخ خميس ذلك الرجل المهيب الذي لم يحتفظ لنا التاريخ إلا باسمه الأول وقد ذهب يدرس في الإحساء ثم عاد إلى دبي وكان ذلك في عهد الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم بن بطي الذي تولى الحكم منذ عام 1894-1906 كما تلوح لك بعد الشيخ صور ة الشيخ الجليل حسن الخزرجى الذي ولي القضاء بعد رحيل القاضي الأول خميس وقد كان الخزرجى يقضي في بيته في منطقة الرأس بديرة ثم تلوح لك صورة القاضي الشيخ محمد بن عبدا لسلام المغربي ذلك الشيخ الجليل الذي وفد من المغرب من سواحل الأطلسي إلى سواحل الخليج العربي ليلقي عصا الترحال في دبي ويستقر بها قاضياً وظل بها قاضياً أحبها وتزوج فيها حتى بلغ من العمر مبلغاً فاعتزل القضاء ليتسلم القضاء بعده الشيخ عبدا لرحمن بن حافظ وما لبث أن لاح في الصورة الشيخ أحمد بن حسن الخزرجى والشيخ علي الجناحي ثم الشيخ السيد محمد الشنقيطي والشيخ مبارك بن علي الشامسي الذي كانت ترفع إليه الأحكام في بيته لمراجعتها والمصادقة عليها للتأكد من صلاحيتها للتنفيذ ولما لم يكن من حاجة أن يكون للقضاء مقراً كان القضاة يقضون في بيوتهم حتى تغير الحال فسمح الأمر بعد إنشاء المدرسة الأحمدية التي أنشأها وجيه دبي وكريمها محمد بن دلموك وذلك في فترة كساد التي أعقبت الحرب العالمية فحالت الحالة الاقتصادية دون استكمال التعليم فتركت المدرسة لتتخذ مقرا للقضاء في تلك الفترة حتى تحسنت الأحوال وعـاد التعليم في المدرسة على يد الشيخ محمد نـور سيف المهيري فعاد القضاة بعدها يقضون بين الناس في بيوتهم ثم عاد القضاة في مرحلة لاحقة إلى اتخاذ جانب من المدرسة الأحمدية مقراً للقضاء.
وهكذا نرى أن القضاء في دبي كان بسيطا لم يصدر به أي قرار رسمي حتى سنة 1938م حيث أسند الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم أمر الفصل في المنازعـات بين الناس إلى أخيـه الشيخ حشر بن مكتوم آل مكتوم مشكلا بذلك أول بداية رسمية لما يمكن تسميته بدائرة العدل حيث ترفع المنازعات إلى الشيخ حشر ليحلها ما أمكن بالتسويات والصلح بين أطرافها ويحيل ما يراه منها لازما إلى القضاة ممارساً بذلك دور ناظر القضاء أو مديره في دبي وكان يجلس لذلك في دكان بسوق العرصة في ديرة ثم خلف الشيخ حشر بعد ذلك ابنه الشيخ محمد بن حشر بن مكتوم آل مكتوم في سنة 1956 ولقد سمى وقتها ناظراً للقضاء وكان ذلك إرهاصاً بمرحلة جديدة بانتقال القضاء إلى بيت مستأجر في منطقة الرأس وكان سلك القضاء وقتها يتألف من القضاة السيد محمد الشنقيطي والشيخ أحمد بن حسن الخزرجى ثم عين قاضٍ آخر أُسُتقدِمَ من سوريا هو القاضي محمد الدجاني وبعد عامين وبالتحديد في عام 1958 أتُّخِذَ حصن نايف مقراً للقضاء في دبي وأستمر الأمر كذلك حتى نهاية 1979م. وفي نهاية عام 1958م عيّن القاضي السيد محمد جعفر السقاف وأستمر السقاف قاضياً لنظر النزاعات بين المواطنين فقط ، أما النزاعات التي يدخل فيها طرف غير مواطن فكانت دار الاعتماد البريطاني مختصة بالنظر فيها من خلال هيئة يرأسها الشيخ محمد بن حشر آل مكتوم.
وعمل بجانب القضاء ومعاوناً له خبراء مختصون بمنازعات البحر تحال إليهم المنازعات المتعلقة بأعمال الغوص والبحر وكانوا يسمون "بالسالفة" ومن أشهرهم المرحوم السيد جمعة بن عبدا لله الأملح والمرحوم أحمد بن حارب وحميد البسطي وكانوا يفصلون في تلك المنازعات في بيوتهم أو في دكان بالسوق، وخصص لآخر سالفة وهو أحمد بن حارب بعد ذلك عندما انتقلت المحكمة إلى مبنى نايف سنة 1958 غرفة يفصل فيها بين الناس في ما ينشأ عن أعمال البحر من منازعات ولقد كان السالفة مختصاً في تلك المنازعات بتقدير التعويضات الناتجة عن الأضرار ورفع قراره في ذلك إلى القاضي السقاف ليعتمده كما يعتمد قرارات الخبراء ويعتبللمحاكمره أساساً للحكم بالإلزام في تلك المنازعات. ويعتبر عام 1970 عام القانون المؤسس الحديثة في دبي حيث صدر قانون تشكيل المحاكم واستحدثت بموجبه المحكمة المدنية برئاسة قاضيها المرحوم/ عُدي البيطار، وخلفه القاضي موسى الجيوسي ومن بعده القاضي غالب البسطامي.
وفي ذات هذا القانون أنشئت محكمة الاستئناف وقد بين ذلك القانون اختصاصاتها وتشكيلها ثم صدر قانون تشكيل محكمة الاستئناف العليا رقم (2 لسنة 1979م) حيث استقلت محكمة الاستئناف بقانون جديد يلغي ما سبق من نصوص بشأن محكمة الاستئناف في قانون تشكيل المحاكم لسنة 1970م.
ثم صدر بتاريخ 14/4/1979 مرسومّ بتعيين رئيس وقضاة محكمة الاستئناف العليا حيث نص المرسوم على تعيين السيـد/ محمود أحمـد الحناوي رئيساً للمحكمة والسيد/ حسن إسماعيل قاسم نائباً للرئيس وعضوية كل من السيد/ أحمد أحمد عبدا لشكور والسيد/ ممدوح محي الدين مرعي. وقد عدل ذلك بالقانون رقم (2) لسنة 1988 بحذف كلمة العليا من مسمى محكمة الاستئناف بحيث يصبح أسمها محكمة الاستئناف فقط بدلاً من محكمة الاستئناف العليا.
ويلاحظ أنه لم يرد إنشاء محكمة للنقض أو التمييز إلا في 1988 بقانون تشكيل محكمة التمييز رقم (1) لسنة 1988م الصادر بتاريخ 6/2/1988م ثم صدر المرسوم رقم (6) لسنة 1988م الذي عين رئيس قضاة محكمة التمييز فنص على تعيين أول رئيس محكمة تمييز بمحاكم دبي وهو الدكتور/ مصطفى كامل كيرة رئيساً لمحكمة التمييز وكل من السادة القضاة سيد عبد الباقي سيف جميل وجمال الدين محمود فهمي وعلي شحادة النعسان والدكتور عبد الله محمد دفع الله والدكتور علي إبراهيم الإمام حنفي إبراهيم أحمد.
ويلاحظ أن المحاكـم الثلاث لم يصدر فيها قانون واحد مشترك يجمع بينها جميعاً في التشكيل والاختصاص حتى صدور قانون تشكيل المحاكم في إمـارة دبي رقـم (3) لسنة 1992م والذي بين تشكيل المحاكم الثلاث واختصاصاتها كل على حده. ثم صدر قانون تأسيس دائرة المحاكم برقم 3 لسنة 2000 والذي أعلن تأسيس دائرة تسمى دائرة المحاكم وأعطاها صلاحية تنظيم المحاكم بإمارة دبي من الناحيتين المالية والإدارية وقد حدد ذلك القانون صلاحيات الدائرة وسمى إداراتها الفنية والمالية والإدارية.
وظل الأمر على ذلك النحو حتى صدور القانون رقم 1 لسنة 2003 بشأن تأسيس دائرة العدل ذلك القانون الذي أعطى الدائرة صلاحيات تجمع تحت جناحيها المحاكم والنيابة العامة بكافة صلاحياتهما وأدارتهما السابقة مضافاً إليها الإشراف على جهاز التفتيش القضائي مع الإشارة إلى التعويل في تنظيم شؤون المحاكم والنيابة العامة والتفتيش القضائي على القوانين الصادرة في شؤون تنظيم كلٍ منها على حدة قبل صدور قانون تأسيس دائرة العدل.
ثم جاء القانون رقم 5 لسنة 2005 الذي ألغى القانون رقم 1 لسنة 2003 الذي أسس دائرة العدل ثم جاء على أثره القانون رقم 6 لسنة2005 الذي أعاد الأمر إلى سابق عهده فجعل من المحاكم كيانا مستقلاً عن النيابة العامة والذي أعاد تشكيل إداراتها.
وهكذا هو تاريخ القضاء في دبي عبارة عن حكاية تطور إمارة دبي حاضرة البحر الوادعة على ساحل الخليج تحتضن بين جنبيها ذراعه (خور دبي) تمر بها الأيام وتتحول شيئا فشيئا إلى حاضرة الإمارات وعاصمتها التجارية التي هي اليوم تحتضن أكبر المؤسسات العالمية وأحدثها التي كان آخرها مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة إنه تناغم سريع ومتناسب مع هذه الحداثة اللافتة لأنظار العالم إليها.